سورة الأنعام - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)}
اعلم أنه تعالى لما بيّن أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بما يوجب اليأس عن إيمان بعضهم فقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعقبة وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأُمية وأبي ابنا خلف والحرث بن عامر وأبو جهل واستمعوا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنضر ما يقول محمد فقال: لا أدري ما يقول لكني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدثكم به عن أخبار القرون الأولى وقال أبو سفيان إني لا أرى بعض ما يقول حقاً فقال أبو جهل كلا فأنزل الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} والأكنة جمع كنان وهو ما وقى شيئاً وستره، مثل عنان وأعنة، والفعل منه كننت وأكننت.
وأما قوله: {أَن يَفْقَهُوهُ} فقال الزجاج: موضع {أن} نصب على أنه مفعول له والمعنى وجعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت (اللام) نصبت الكراهة، ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى (أن) وقوله: {وفي آذانهم وَقْراً} قال ابن السكيت: الوقر الثقل في الأذن.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يصرف عن الإيمان، ويمنع منه ويحول بين الرجل وبينه، وذلك لأن هذه الآية تدل على أنه جعل القلب في الكنان الذي يمنعه عن الإيمان، وذلك هو المطلوب.
قالت المعتزلة: لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار لا ليكون حجة للكفار على الرسول، ولو كان المراد من هذه الآية أنه تعالى منع الكفار عن الإيمان لكان لهم أن يقولوا للرسول لما حكم الله تعالى بأنه منعنا من الإيمان فلم يذمنا على ترك الإيمان، ولم يدعونا إلى فعل الإيمان؟ الثاني: أنه تعالى لو منعهم من الإيمان ثم دعاهم إليه لكان ذلك تكليفاً للعاجز وهو منفي بصريح العقل وبقوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الثالث: أنه تعالى حكى صريح هذا الكلام عن الكفار في معرض الذم فقال تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] وقال في آية أخرى {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88] وإذا كان قد حكى الله تعالى هذا المذهب عنهم في معرض الذم لهم امتنع أن يذكره هاهنا في معرض التقريع والتوبيخ، وإلا لزم التناقض.
والرابع: أنه لا نزاع أن القوم كانوا يفهمون ويسمعون ويعقلون.
والخامس أن هذه الآية وردت في معرض الذم لهم على ترك الإيمان ولو كان هذا الصد والمنع من قبل الله تعالى لما كانوا مذمومين بل كانوا معذورين.
والسادس: أن قوله: {حتىإذا جاءُوك يجادلونك} يدل على أنهم كانوا يفقهون ويميزون الحق من الباطل، وعند هذا قالوا لابد من التأويل وهو من وجوه:
الأول: قال الجبائي إن القوم كانوا يستمعون لقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ليتوسلوا بسماع قراءته إلى معرفة مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه فعند ذلك كان الله سبحانه وتعالى يلقي على قلوبهم النوم، وهو المراد من الأكنة، ويثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم، وهو المراد من قوله: {وفي آذانهم وَقْراً} والثاني: أن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر فإنه تعالى يسم قلبه بعلامة مخصوصة يستدل الملائكة برؤيتها على أنه لا يؤمن، فصارت تلك العلامة دلالة على أنهم لا يؤمنون.
وإذا ثبت هذا فنقول: لا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان والغطاء المانع، مع أن تلك العلامة في نفسها ليست مانعة عن الإيمان.
والتأويل الثالث: أنهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه، فصار عدولهم عن الإيمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان، فذكر الله تعالى الكنان كناية عن هذا المعنى.
والتأويل الرابع: أنه تعالى لما منعهم الالطاف التي إنما تصلح أن تفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم منها، وفوض أمرهم إلى أنفسهم لسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه فيقول: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}.
والتأويل الخامس: أن يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5].
والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في بيان أنه لا يمكن حمل الكنان والوقر على أن الله تعالى منعهم عن الإيمان، وهو أن نقول: بل البرهان العقلي الساطع قائم على صحة هذا المعنى، وذلك لأن العبد الذي أتى بالكفر إن لم يقدر على الإتيان بالإيمان، فقد صح قولنا إنه تعالى هو الذي حمله على الكفر وصده عن الإيمان.
وأما إن قلنا: إن القادر على الكفر كان قادراً على الإيمان فنقول: يمتنع صيرورة تلك القدرة مصدراً للكفر دون الإيمان، إلا عند انضمام تلك الداعية، وقد عرفت في هذا الكتاب أن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل، فيكون الكفر على هذا التقدير من الله تعالى، وتكون تلك الداعية الجارة إلى الكفر كناناً للقلب عن الإيمان، ووقراً للسمع عن استماع دلائل الإيمان، فثبت بما ذكرنا أن البرهان العقلي مطابق لما دل عليه ظاهر هذه الآية.
وإذا ثبت بالدليل العقلي صحة ما دل عليه ظاهر هذه الآية، وجب حمل هذه الآية عليه عملاً بالبرهان وبظاهر القرآن، والله أعلم.
المسألة الثالثة: أنه تعالى قال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} فذكره بصيغة الإفراد ثم قال: {على قُلُوبِهِمْ} فذكره بصيغة الجمع.
وإنما حسن ذلك لأن صيغة (من) واحد في اللفظ جمع في المعنى.
وأما قوله تعالى: {وإن يرواْ كل ءاية لاّ يُؤمنواْ بها} قال بان عباس: وإن يروا كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل أن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة، وهذه الآية تدل على فساد التأويل الأول الذي نقلناه عن الجبائي، ولأنه لو كان المراد من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} إلقاء النوم على قلوب الكفار لئلا يمكنهم التوسل بسماع صوته على وجدان مكانه لما كان قوله: {وإن يرواْ كل ءاية لاّ يُؤمنواْ بها} لائقاً بهذا الكلام، وأيضاً لو كان المراد ما ذكره الجبائي لكان يجب أن يقال: وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يسمعوه، لأن المقصود الذي ذكره الجبائي إنما يحصل بالمنع من سماع صوت الرسول عليه السلام أما المنع من نفس كلامه ومن فهم مقصوده، فلا تعلق له بما ذكره الجبائي فظهر سقوط قوله. والله أعلم.
أما قوله تعالى: {حتى إِذَا جاءُوك يجادلونك} فاعلم أن هذا الكلام جملة أخرى مرتبة على ما قبلها و{حتى} في هذا الموضع هي التي يقع بعدها الجمل، والجملة هي قوله: {إِذَا جاءُوك يجادلونك} يقول الذين كفروا، ويجادلونك في موضع الحال وقوله: {يَقُولُ الذين كَفَرُواْ} تفسير لقوله: {يجادلونك} والمعنى أنه بلغ بتكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك، وفسّر مجادلتهم بأنهم يقولون {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين} قال الواحدي: وأصل الأساطير من السطر، وهو أن يجعل شيئاً ممتداً مؤلفاً ومنه سطر الكتاب وسطر من شجر مغروس.
قال ابن السكيت: يقال سطر وسطر، فمن قال سطر فجمعه في القليل أسطر والكثير سطور، ومن قال سطر فجمعه أسطار، والأساطير جمع الجمع، وقال الجبائي: واحد الأساطير أسطور وأسطورة وأسطير وأسطيرة، وقال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة.
وقال أبو زيد: الأساطير من الجمع الذي لا واحد له مثل عباديد ثم قال الجمهور: أساطير الأولين ما سطره الأولون.
قال ابن عباس: معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها.
فأما قول من فسر الأساطير بالترهات، فهو معنى وليس مفسراً. ولما كانت أساطير الأولين مثل حديث رستم واسفنديار كلاماً لا فائدة فيه لا جرم فسرت أساطير الأولين بالترهات.
المسألة الرابعة: اعلم أنه كان مقصود القوم من ذكر قولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين} القدح في كون القرآن معجزاً فكأنهم قالوا: إن هذا الكلام من جنس سائر الحكايات المكتوبة، والقصص المذكورة للأولين، وإذا كان هذا من جنس تلك الكتب المشتملة على حكايات الأولين وأقاصيص الأقدمين لم يكن معجزاً خارقاً للعادة. وأجاب القاضي عنه بأن قال: هذا السؤال مدفوع لأنه يلزم أن يقال لو كان في مقدوركم معارضته لوجب أن تأتوا بتلك المعارضة وحيث لم يقدروا عليها ظهر أنها معجزة.
ولقائل أن يقول: كان للقوم أن يقولوا نحن وإن كنا أرباب هذا اللسان العربي إلا أنا لا نعرف كيفية تصنيف الكتب وتأليفها ولسنا أهلاً لذلك. ولا يلزم من عجزنا عن التصنيف كون القرآن معجزاً لأنا بينا أنه من جنس سائر الكتب المشتملة على أخبار الأولين وأقاصيص الأقدمين.
واعلم أن الجواب عن هذا السؤال سيأتي في الآية المذكورة بعد ذلك.


{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بيّن أنهم طعنوا في كون القرآن معجزاً بأن قالوا: إنه من جنس أساطير الأولين وأقاصيص الأقدمين؛ بين في هذه الآية أنهم ينهون عنه وينأون عنه، وقد سبق ذكر القرآن وذكر محمد عليه السلام، فالضمير في قوله: {عَنْهُ} محتمل أن يكون عائداً إلى القرآن وأن يكون عائداً إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فلهذا السبب اختلف المفسرون فقال بعضهم: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي عن القرآن وتدبره والاستماع له.
وقال آخرون: بل المراد ينهون عن الرسول.
واعلم أن النهي عن الرسول عليه السلام محال بل لابد وأن يكون المراد النهي عن فعل يتعلق به عليه الصلاة والسلام، وهو غير مذكور فلا جرم حصل فيه قولان: منهم من قال المراد أنهم ينهون عن التصديق بنبوّته والإقرار برسالته.
وقال عطاء ومقاتل: نزلت في أبي طالب كان ينهى قريشاً عن إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يتباعد عنه ولا يتبعه على دينه.
والقول الأول: أشبه لوجهين:
الأول: أن جميع الآيات المتقدمة على هذه الآية تقتضي ذم طريقتهم، فكذلك قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} ينبغي أن يكون محمولاً على أمر مذموم، فلو حملناه على أن أبا طالب كان ينى عن إيذائه، لما حصل هذا النظم.
والثاني: أنه تعالى قال بعد ذلك {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ} يعني به ما تقدم ذكره. ولا يليق ذلك بأن يكون المراد من قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} النهي عن أذيته، لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك.
فإن قيل: إن قوله: {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ} يرجع إلى قوله: {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} لا إلى قوله: {يَنْهَوْنَ عَنْهُ} لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه بمفارقة دينه، وترك الموافقة له وذلك ذم فلا يصح ما رجحتم به هذا القول.
قلنا: إن ظاهر قوله: {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ} يرجع إلى كل ما تقدم ذكره لأنه بمنزلة أن يقال: إن فلاناً يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه ولا يضر بذلك إلا نفسه، فلا يكون هذا الضرر متعلقاً بأحد الأمرين دون الآخر.
المسألة الثانية: اعلم أن أولئك الكفار كانوا يعاملون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوعين من القبيح.
الأول: إنهم كانوا ينهون الناس عن قبول دينه والاقرار بنبوته.
والثاني: كانوا ينأون عنه، والنأي البعد يقال: نأى ينأى إذا بعد. ثم قال: {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} قال ابن عباس، أي وما يهلكون إلا أنفسهم بسبب تماديهم في الكفر وغلوهم فيه وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم ويذهبونها إلى النار بما يرتكبون من الكفر والمعصية، والله أعلم.


{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وينأى عن طاعته بأنهم يهلكون أنفسهم شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية وفيها مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {وَلَوْ تَرَى} يقتضي الله جواباً وقد حذف تفخيماً للأمر وتظيماً للشأن، وجاز حذفه لعلم المخاطب به وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر. ولو قدرت الجواب، كان التقدير: لرأيت سوء منقلبهم أو لرأيت سوء حالهم وحذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره، ألا ترى: أنك لو قلت لغلامك، والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب، ذهب بفكره إلى أنواع المكروه، من الضرب، والقتل، والكسر، وعظم الخوف ولم يدر أي الأقسام تبغي.
ولو قلت: والله لئن قمت إليك لأضربنك فأتيت بالجواب، لعلم أنك لم تبلغ شيئاً غير الضرب ولا يخطر بباله نوع من المكروه سواه، فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيراً في حصول الخوف.
ومنهم من قال جواب {لَوْ} مذكور من بعض الوجوه والتقدير ولو ترى إذ وقفوا على النار ينوحون ويقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب.
المسألة الثانية: قوله: {وُقِفُواْ} يقال وقفته وقفاً، ووقفته وقوفاً كما يقال رجعته رجوعاً.
قال الزجاج: ومعنى {وُقِفُواْ عَلَى النار} يحتمل ثلاثة أوجه: الأول: يجوز أن يكون قد وقفوا عندها وهم يعاينونها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار.
والثاني: يجوز أن يكونوا وقفوا عليها وهي تحتهم، بمعنى أنهم وقفوا فوق النار على الصراط، وهو جسر فوق جهنم.
والثالث: معناه عرفوا حقيقتها تعريفاً من قولك وقفت فلاناً على كلام فلان؛ أي علمته معناه وعرفته، وفيه وجه رابع: وهم أنهم يكونون في جوف النار، وتكون النار محيطة بهم، ويكونون غائصين فيها وعلى هذا التقدير فقد أقيم (على) مقام (في) وإنما صح على هذا التقدير، أن يقال: وقفوا على النار، لأن النار دركات وطبقات، وبعضها فوق بعض فيصح هناك معنى الاستعلاء.
فإن قيل: فلماذا قال: {وَلَوْ تَرَى}؟ وذلك يؤذن بالاستقبال ثم قال بعده إذ وقفوا وكلمة {إِذْ} للماضي ثم قال بعده، فقالوا وهو يدل على الماضي.
قلنا: أن كلمة (إذ) تقام مقام (إذا) إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد، وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر، فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي، يفيد المبالغة من هذا الاعتبار.
المسألة الثالثة: قال الزجاج: الامالة في النار حسنة جيدة، لأن ما بعد الألف مكسور وهو حرف الراء، كأنه تكرر في اللسان فصارت الكسرة فيه كالكسرتين.
أما قوله تعالى: {فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بئايات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: {يا ليتنا نُرَدُّ} يدل على أنهم قد تمنوا أن يردوا إلى الدنيا.
فأما قوله: {وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} ففيه قولان:
أحدهما: أنه داخل في التمني والتقدير أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا ولا يكونوا مكذبين وأن يكونوا مؤمنين.
فإن قالوا هذا باطل لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم كاذبين بقوله في آخر الآية {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} والمتمني لا يوصف بكونه كاذباً.
قلنا: لا نسلم أن المتمني لا يوصف بكونه كاذباً لأن من أظهر التمني، فقد أخبر ضمناً كونه مريداً لذلك الشيء فلم يبعد تكذيبه فيه، ومثاله أن يقول الرجل: ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك، فهذا تمن في حكم الوعد، فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه لقيل إنه كذب في وعده.
القول الثاني: أن التمني تمّ عند قوله: {ياليتنا نُرَدُّ} وأما قوله: {وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} فهذا الكلام مبتدأ وقوله تعالى في آخر الآية {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} عائد إليه وتقدير الكلام يا ليتنا نرد، ثم قالوا ولو رددنا لم نكذب بالدين وكنا من المؤمنين، ثم إنه تعالى كذبهم وبيّن أنهم لو ردوا لكذبوا ولأعرضوا عن الإيمان.
المسألة الثانية: قرأ ابن عامر نرد ونكذب بالرفع فيهما ونكون بالنصب، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم نرد بالرفع، ونكذب ونكون بالنصب فيهما، في الثلاثة، فحصل من هذا أنهم اتفقوا على الرفع في قوله: {نُرَدُّ} وذلك لأنه داخلة في التمني لا محالة، فأما الذين رفعوا قوله: {وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ} ففيه وجهان:
الأول: أن يكون معطوفاً على قوله: {نُرَدُّ} فتكون الثلاثة داخل في التمني، فعلى هذا قد تمنوا الرد وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين.
والوجه الثاني: أن يقطع ولا نكذب وما بعده عن الأول، فيكون التقدير: يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، فهم ضمنوا أنهم لا يكذبون بتقدير حصول الرد. والمعنى يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نرد أي قد عاينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبداً.
قال سيبويه: وهو مثل قولك دعني ولا أعود، فهاهنا المطلوب بالسؤال تركه.
فأما أنه لا يعود فغير داخل في الطلب، فكذا هنا قوله: {يا ليتنا نُرَدُّ} الداخل في هذا التمني الرد، فأما ترك التكذيب وفعل الإيمان فغير داخل في التمني، بل هو حاصل سواء حصل الرد أو لم يحصل، وهذان الوجهان ذكرهما الزجاج والنحويون قالوا: الوجه الثاني أقوى، وهو أن يكون الرد داخلاً في التمني، ويكون ما بعده إخباراً محضاً.
واحتجوا عليه بأن الله كذبهم في الآية الثانية فقال: {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} والمتمني لا يجوز تكذيبه، وهذا اختيار أبي عمرو. وقد احتج على صحة قوله بهذه الحجة، إلا أنا قد أجبنا عن هذه الحجة، وذكرنا أنها ليست قوية، وأما من قرأ {وَلاَ نُكَذِّبَ وَنَكُونَ} بالنصب ففيه وجوه:
الأول: بإضمار (أن) على جواب التمني، والتقدير: يا ليتنا نرد وأن لا نكذب.
والثاني: أن تكون الواو مبدلة من الفاء، والتقدير: يا ليتنا نرد فلا نكذب، فتكون الواو هاهنا بمنزلة الفاء في قوله: {لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} [الزمر: 58] ويتأكد هذا الوجه بما روي أن ابن مسعود كان يقرأ {فَلا نُكَذّبَ} بالفاء على النصب، والثالث: أن يكون معناه الحال، والتقدير: يا ليتنا نرد غير مكذبين، كما تقول العرب لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا تأكل السمك شارباً للبن.
واعلم أن على هذه القراءة تكون الأمور الثلاثة داخلة في التمني.
وأما أن المتمن كيف يجوز تكذيبه فقد سبق تقريره.
وأما قراءة ابن عامر وهي أنه كان يرفع {وَلاَ نُكَذّبَ} وينصب {وَنَكُونَ} فالتقدير: أنه يجعل قوله: {وَلاَ نُكَذّبَ} داخلاً في التمني، بمعنى أنا إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله: {فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ} لا شبهة في أن المراد تمني ردهم إلى حالة التكليف لأن لفظ الرد إذا استعمل في المستقبل من حال إلى حال، فالمفهوم منه الرد إلى الحالة الأولى. والظاهر أن من صدر منه تقصير ثم عاين الشدائد والأحوال بسبب ذلك التقصير أنه يتمنى الرد إلى الحالة الأولى، ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصيرات. ومعلوم أن الكفار قصروا في دار الدنيا فهم يتمنون العود إلى الدنيا لتدارك تلك التقصيرات، وذلك التدارك لا يحصل بالعود إلى الدينا فقط، ولا بترك التكذيب، ولا بعمل الإيمان بل إنما يحصل التدارك بمجموع هذه الأمور الثلاثة فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني.
فإن قيل: كيف يحسن منهم تمني الرد مع أنهم يعلمون أن الرد يحصل لا ألبتة.
والجواب من وجوه:
الأول: لعلّهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل.
والثاني: أنهم وإن علموا أن ذلك لا يحصل؛ إلا أن هذا العلم لا يمنع من حصول إرادة الرد كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار} [المائدة: 37] وكقوله: {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} [الأعراف: 50] فلما صح أن يريدوا هذه الأشياء مع العلم بأنها لا تحصل، فبأن يتمنوه أقرب، لأن باب التمني أوسع، لأنه يصح أن يتمنى ما لا يصح أن يريد من الأمور الثلاثة الماضية.
ثم قال تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى {بَلْ} هاهنا رد كلامهم، والتقدير: أنهم ما تمنوا العود إلى الدنيا، وترك التكذيب، وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان، بل لأجل خوفهم من العقاب الذي شاهدوه وعاينوه.
وهذا يدل على أن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه، لكونه إيماناً وطاعة، فأما الرغبة فيه لطلب الثواب، والخوف من العقاب فغير مفيد.
المسألة الثانية: المراد من الآية: أنه طهر لهم في الآخرة ما أخفوه في الدنيا. وقد اختلفوا في ذلك الذي أخفوه على وجوه:
الأول: قال أبو روق: إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر، فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل.
قال الواحدي: وعلى هذا القول أهل التفسير.
الثاني: قال المبرد: بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها، وذلك لأن كفرهم ما كان بادياً ظاهراً لهم، لأن مضار كفرهم كانت خفية، فلما ظهرت يوم القيامة لا جرم قال الله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} الثالث: قال الزجاج: بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث والنشور.
قال والدليل على صحة هذا القول أنه تعالى ذكر عقيبه {وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثين} [الأنعام: 29] وهذا قول الحسن.
الرابع: قال بعضهم: هذه الآية في المنافقين، وقد كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإسلام، وبدا لهم يوم القيامة، وظهر بأن عرف غيرهم أنهم كانوا من قبل منافقين.
الخامس: قيل بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحد نبوّة الرسول ونعته وصفته في الكتب والبشارة به، وما كانوا يحرفونه من التوراة مما يدل على ذلك.
واعلم أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة. والمقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة وانهتكت أستارهم. وهو معنى قوله تعالى: {يَوْمَ تبلى السرائر} [الطارق: 9].
ثم قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} والمعنى أنه تعالى لو ردهم لم يحصل منهم ترك التكذيب وفعل الإيمان، بل كانوا يستمرون على طريقتهم الأولى في الكفر التكذيب.
فإن قيل: إن أهل القيامة قد عرفوا الله بالضرورة، وشاهدوا أنواع العقاب والعذاب فلو ردهم الله تعالى إلى الدنيا فمع هذه الأحوال كيف يمكن أن يقال: إنهم يعودون إلى الكفر بالله وإلى معصية الله.
قلنا: قال القاضي: تقرير الآية {وَلَوْ رُدُّواْ} إلى حالة التكليف، وإنما يحصل الرد إلى هذه الحالة لو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة، ولم يحصل هناك مشاهدة الأهوال وعذاب جهنم، فهذا الشرط يكون مضمراً لا محالة في الآية إلا أنا نقول هذا الجواب ضعيف، لأن المقصود من الآية بيان غلوهم في الاصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان، ولو قدرنا عدم معرفة الله تعالى في القيامة، وعدم مشاهدة أهوال القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم الأول مزيد تعجب، لأن إصرارهم على الكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا، فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره ألبتة.
إذا عرفت هذا فنقول: قال الواحدي: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة، وذلك لأن الله تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك. ثم إنه تعالى بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب، ثم سألوا الرجعة ورُدُّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك، وذلك القضاء السابق فيهم، وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد، ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} وفيه سؤال وهو أن يقال: إنه لم يتقدم ذكر خبر حتى يصرف هذا التكذيب إليه.
والجواب: أنا بينا أن منهم من قال الداخل في التمني هو مجرد قوله: {يا ليتنا نُرَدُّ} أما الباقي فهو إخبار، ومنهم من قال بل الكل داخل في التمني، لأن إدخال التكذيب في التمني أيضاً جائز، لأن التمني يدل على الاخبار على سبيل الضمن والصيرورة، كقول القائل ليت زيداً جاءنا فكنا نأكل ونشرب ونتحدث فكذا هاهنا. والله أعلم.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10